السعودية اليوم – الكاتب السوري نجيب كيالي:
في مدينة لون Loan الفرنسيَّة دخل سارية إلى المقهى حاملاً على كتفيه كيساً من الضجر. قلبُه محاطٌ بالوحشة.. بالبرد.. بالشوق إلى جليس، لكنَّ المقهى كان فارغاً إلا من شاب يجلس وحيداً، ويُحدّق في الفراغ كتمثال في متحف الشَّمع!
جلس إلى طاولة، ثم انتقل إلى غيرها، ثمَّ همَّ بالخروج، لكنه- بعد وقوفه- جلس من جديد ليتسلَّى بالنظر إلى الشارع.
كان المقهى يقع في زاوية من تقاطع شارعين، ويطلُّ زجاجُه على دَوَّار أنيق، لكن المكان شبه خالٍ من البشر، بينما تمرُّ سيارات كبيرة وصغيرة ركابُها قليلون! زادت درجةُ الضجر في قلب سارية، دفعَ بصرَهُ عندئذٍ نحو محطة القطارات القريبة التي يسمُّونها: (الجار.. بجيم مصرية)، غيرَ أنَّ المشهد كان مخيِّباً أيضاً، فحركةُ الخارجين والداخلين إليها كانت قليلةً جداً أو شبه معدومة! صرَّ ساريةُ بأسنانه، وتخيَّل نفسَهُ يقود مظاهرة تطالب بإعادة الناس إلى الشوارع! نهض مجدداً عازماً على الرحيل في حين أدار الشاب الوحيد ظهرَهُ، وكأنه يسعى لمزيد من العزلة والجمود! مع النهوض انتبه ساريةُ فجأةً إلى وجود نبتةٍ خضراءَ كبيرةِ الأوراق في أصيص. النبتةُ أمامه تماماً، والغريبُ أنه لم يرها منذ وصوله! نظرَ إلى النبتة التي لا يعرف اسمَها، فشعر كأنها تقول له بأوراقها: اجلس لنتسلَّى، أنا الأخرى ممتلئةٌ بالضجر.
جلس، قال للنبتة بعينيه: صحيح أنني لا أعرف اسمَكِ/ نوعَكِ أيتها الحلوة، لكنني أشعر نحوكِ بالارتياح.
ردَّت النبتة بأوراقها: وأنا كذلك.
أفضى كلٌّ من سارية والنبتة للآخر بشجونه، هو ينطق بعينيه، وهي تتكلم بأوراقها، وكانا يفهمان جيداً كلاهما ما يقوله الآخر.
حدَّثَها عن هروبه من سوريا بسبب الحرب، وقدومِه لفرنسا، حدَّثَها عن بلد يُذبَح كنعجة من الوريد إلى الوريد، يختلج ويتطاير دمه، لكنَّ آلافَ العيون تُحدِّقُ ببلاهة متعمَّدة، ولا تفعل شيئاً! لماذا؟ السؤال بحد ذاته مذبحة ثانية حيث يقطع عنقَ السائل قبل أن يعثر له على جواب! حدَّثَها عن ابنه الشاب الذي جاء معه إلى فرنسا، وهو آخر من بقي حياً من أسرته. لقد نجا مثله من الموت، لكنه لم ينجُ من صدمة ما جرى! إنه يقضي معظمَ الوقت صامتاً، وكأنَّ لسانَهُ سقط في مكان ما! جامدٌ هو.. جامد، وكأنَّ أحداً سرقَ عروقَ يديه ورجليه، وحوَّلَه إلى خشب! لهذا.. فابنه يزيد من شعوره بالوحدة والمرارة! أمَّا هي فحدَّثته عن غربتها في مقهى روَّادُه قليلون للغاية، رغمَ أنه يحوى باراً في إحدى زواياه! ورغم أنه يقع في منتصف المدينة! وأشارت إلى الشاب قائلة بأوراقها: انظر هذا نموذج من زوَّاري. لعلك لاحظتَ أن الناس هنا- رغمَ نعيمهم المادي- لديهم مشكلة في عواطفهم، ثمَّ أضافت بحرقة: أخّْ. ليت أحداً يقلعني من أصيصي، فأموت، وأرتاح.
عبارة النبتة الأخيرة أحدثت زلزالاً في صدر سارية، فتخيَّل نفسَهُ مرةً أخرى يقود مظاهرة تطالب بإعادة الناس إلى الشوارع.. تعيدهم إلى الحيوية والحركة، واهتمامِ بعضهم ببعض!
المظاهرة التي تخيلها هذه المرة أكبر من الأولى بكثير، إنها ليست في بلد واحد، بل تجوب العالمَ كلَّه، كانت الهتافات تدوِّي:
(الحبُّ قبلَ كل شيء).
(لا تكذبوا علينا بالرفاهية، إنها لا تصلح بديلاً عن قلب دافئ)
(علِّموا أطفالَنا دروساً في المحبة قبل تعليمهم الجنس)
(أيها القساة تارةً تقتلون قلبَ الإنسان بالحرب، تارةً تصرفونه عنه لينساه. جريمة.. جريمة).
انتبه سارية إلى أنه وهو جالسٌ إلى طاولته في المقهى يردد الهتافاتِ السابقة بصوت مرتفع! فأسرع بمغادرة المقهى خجولاً، وعَبْرَ الزجاج من الخارج ألقى على صديقته الخضراء نظرةَ وداع واعداً إياها بزيارة جديدة.