الشاعر والقاص العراقي- عبد الله الجميل:
يختلفُ الناسُ في أساليبِ مواجهةِ مشاكلِهم؛ منهم من ينامُ، منهم من يصرُخُ، يبكي، يضرِبُ، منهم من يُديرُ مُحرِّكَ السيّارةِ ويمضي.. أمّا أنا فأختبئُ في خِزانةِ الملابسِ.
عادةٌ منذُ الصِّغَرِ؛ حينَ حاولَتْ أختي الكبرى أن تُدخِلَ يدي في إطارِ المِروحةِ العَموديّةِ، بكَيتُ كثيراً، ولمّا لم أجدْ لِشكوايَ أُذُناً صاغيةً، صعِدتُ إلى غرفةِ والديَّ، وانكفأتُ على نفسي كالسُّلَحْفاةِ في خزانةِ ملابسِهما. كانت العَتَمَةُ سيّدةَ المكانِ، والصمتُ طاغياً، يبدو أنّي تعِبتُ من البكاءِ فنِمتُ.
خِلالَ فترةِ نومي، كانَ اسمي قد عُمِّمَ على مراكزِ الشرطةِ والمستشفياتِ، وصورتي طُبِعَتْ وعُلِّقَتْ على الجدرانِ معَ مُكافأةٍ مُجزيةٍ لمن يعثُرُ عليَّ. ظنّت أمي أني رحتُ ضحيّةَ النساءِ النشّالاتِ، وهنَّ مشهوراتٌ في ذلكَ الوقتِ؛ نساءٌ بديناتٌ بعباءاتٍ سودٍ، يترصّدنَ الأطفالَ لحظةَ خروجِهم لشراءِ الشيبس أو النستلة من دكاكينِ المِنطَقةِ، أو يتفقْنَ مع بائعِ المُثلَّجاتِ الجوّالِ الذي يبتعدُ بالأطفالِ، حتّى إذا صِرْنَ في منأىً عن البيوتِ والأنظارِ، أمسكْنَ سيقانَهم القصيرةَ كشَتْلاتِ الثومِ، وقلَبْنَهم في أكياسِ الخِيشِ، ثُمَّ مضيْنَ بهم إلى حيثُ يدري ( اللهُ ).
صحوتُ على حُزمةِ ضوءٍ نافذةٍ إلى أهدابي من ثُقبٍ في الخزانةِ، دفعتُ البابَ بقدميَّ الصغيرتينِ كحبَّتَي الكُمَّثرى، ناديتُ بصوتي الخفيضِ، البيتُ فارغٌ، تجولتُ في حُجُراتِهِ وأنا في حالةِ الذي يستيقظُ وقتَ المَغرِبِ، ولمّا أزحتُ بابَ المَدخلِ، إذا بالعشيرةِ كلِّها في الكراج، الكلُّ يُحدِّقُ بي في صمتٍ أعقبَهُ صراخٌ هستيريٌّ، وأنا بدشداشتي الصغيرةِ أفرُكُ عينيَّ، ولُعابي على طرفِ فمي.
المهمُّ بعدَ هذهِ الواقعةِ، أنَّ كِلْمتي لم تعدْ تصيرُ كِلْمتينِ، وكلّما استفزَّتني أختي هدَّدتُها بالخزانةِ.
مرّت الأعوامُ، وجاءَنا البريدُ ( عليكَ الالتحاقَ بالجبهةِ بتاريخِ كذا كذا ). ودَّعتُهم ورحلتُ.
ومعَ أوّلِ تبادلٍ ناريٍّ هربتُ. أجلْ، هربتُ ولكن لا خزانةَ ملابسَ في ساحةِ المعركةِ، وهكذا تسلَّلتُ عائداً إلى مدينتي، إلى بيتِ أهلي، وعانقتُ أمي، ونمتُ أجملَ ليلةٍ في الخزانةِ مُلتحفاً بمِعطفِ أبي الذي تُوفيَ وأنا في المعركةِ.
الإعدامُ عقوبةُ الهروبِ من المعركةِ.
– لا تخافي.
قلتُ لأمّي.
– ماذا تفعلُ يا مجنونُ ؟
– لا عليكِ، افتحي البابَ لهم ولا تخافي.
وفي هذهِ الأثناءِ، كسرَ المفتشونَ بابَ البيتِ، مصحوبينَ بمُذكِّرَةِ اعتقالٍ، قلبُوا البيتَ رأساً على عَقِبٍ.
حينَ فتحوا دولابَ الملابسِ، لم يجدوني، رغم أنّي واقفٌ أمامهم، أراهم ولا يرونَني! أجل، لقد تحوّلتُ إلى فُستانٍ جميلٍ! بتعويذةٍ ما، تحولتُ إلى فُستانٍ جميلٍ مثقوبٍ من جهةِ القلبِ!
أروي لكم هذهِ القصةَ، وأنا مختبئٌ في خزانةِ الملابسِ!