الشاعر والقاص السوري نجيب كيَّالي
كنتُ ذاتَ صباح أَعبُرُ في مكانٍ موحش، جغرافيتُه خاليةٌ من الجمال الذي يغري بالتأمل، وينادي الخيالَ ليفتحَ أجنحتَهُ ويطير، ليس في المكان المذكور شلالُ ماء أو نهرٌ أو أشجارُ زيتون أو عنب أو صفاف أو حَوْر، هناك فقط بضعُ جذوعٍ قديمةٍ شبهِ يابسة وبيتٌ عتيق، والقليلُ من العشب، بينه زُهَيراتٌ ناعمة يطير من فوقها الذباب. شعرتُ بالكآبة، فأنا شاعرٌ أكرهُ الجفاف، وأُحبُّ الجمال، وأتعبَّدُ في مِحرابه.
فجأةً ظهرَ صديقي العصفور ذو العينين البراقتين الذكيَّتن، وأنا أُسمِّيه: حكيمَ العصافير، قال:
– أتصدِّق؟ بوسعي بدقائقَ أن أجعلَ هذا المكانَ الموحشَ جميلاً أو جميلاً للغاية!
ابتسمتُ قائلاً:
– هل صرتَ تعمل في السِّحر يا حكيمَ العصافير؟
– لا..لا.
– طيّب. هل تحملُ معك فيديو ستُريني فيه مناظرَ ساحرة، فأنسى ما حولي؟
طار عصفوري الحكيم، راحَ وجاءَ أمامي، ثمَّ وقف على راحة كفّي، قال:
– المسألةُ بسيطة. افتح أذنيك فقط.
أطلقَ تغريدةً ساحرة خضراء، فإذا بي أرى صفوفاً من الأشجار المتنوعة تنبثقُ أمامي، بعدها انتقل إلى تغريدةٍ فيها ترنُّمٌ عذب كالخرير، فأبصرتُ شلالاً يتدفق بين الأشجار التي ظهرتْ! تغريدةٌ ثالثة مرحة من حَنجرته الذهبية، فإذا بأطفال يلعبون بين الأشجار، ويتراكضون حول الشلال!
هتفتُ من أعماق روحي:
– الله.. الله! أنتَ بفنك أعظمُ من ساحر، وأكثرُ مهارةً من أشرطة السينما والفيديو!
قرَّبتُه إليَّ، وطبعتُ قبلةً على منقاره، ثمَّ قلتُ:
– وأنا الآنَ سأُسمعُك شيئاً عجيباً أيها الحكيم.
قال بلهفة: هات.
– أنتَ تعلم أني شاعر، والآن سأُريكَ كيف يمكن أن أَقْلِبَ الكلماتِ القبيحة إلى أخرى جميلة!
ظهرَ شوقٌ جارفٌ في عينيه، فقلت:
– كلمة: كَسَرَ مثلاً دلالتُها تحطيمُ الأشياء وخسارتُنا لها، مثل: كَسَرَ الطفلُ إناءً ثميناً. لاحظْ كيف سأنقلها الآنَ لمعنى فاتن: كنتُ حزيناً ذاتَ نهار، فجاءت حبيبتي وأضحكَتْني، فوصفتُ ذلك قائلاً:
كَسَرتْ حزني بضِحْكةْ/لحنُها واللهِ فَكَّهْ
قال العصفور: جميل رائع!
– خذ مثالاً آخرَ يا صديقي.. كلمة: ذيل، إنها تدلُّ على شيءٍ طويلٍ، يكون في مؤخرة الحيوان، ويقف عليه الذباب، انظر كيف سأجعلها بلحظة في دلالةٍ أخرى جميلة: للوردة ذيلٌ طويلٌ من العطر.. أي عطرُها يمتدُّ في الهواء ويَنداح. خذ هذين البيتين:
ذيلَ عطرٍ وردتي قد تركتْ/
وردتي الحسناءُ تهواها الأنوفْ
آهِ يا عطرُ تَغَلْغَلْ في دمي/
إنني بالعطر مفتونٌ شَغوفْ
رَفَّ حكيمُ العصافير بجناحيه، وهو يهتف:
– يا سلام! ما أروعَ ذيلَ العطر. أنا أحبُّ الورد، وأَتْبَعُ ذيلَهُ من حديقةٍ لأخرى.
ثمَّ اندفعَ الحكيم نحوَ فمي وطبعَ عليه قُبلة.
قلتُ وأنا في غاية الانشراح:
– أتدري يا عصفوري؟ لو استعاد الإنسانُ روحَهُ النقيَّة الضائعة لاستطاع أن يُحوِّلَ قبحَ العالَم كلَّهُ إلى شلالاتِ جمال.